.

.
الاثنين، 10 أغسطس 2015

الادلة على وجوده تعالى : برهان النظم

سلسلة التوحيد
 تحقيق : غازي الجبوري 

ما هي الطرق الى معرفة الله ؟ 

هنالك كلمة قيمة لاهل المعرفة وهي : ان الطرق الى معرفة الله بعدد انفاس الخلائق بل فوقها بكثير فان لكل ظاهرة من الظواهر الطبيعية وجهين ، يشبهان وجهي العملة الواحدة ، احدهما يحكي عن وجودها وحدودها  وخصوصيتها وموقعها من الكون ، والاخر يحكي عن اتصالها بعلتها وقوامها بها ونشؤها منها ، فهذه الظاهرة الطبيعية من الوجه الاول تقع موضع البحث في العلوم الطبيعية كما انها في  الوجه الثاني  تقع طريقا لمعرفة الله سبحانه والتعرف عليه من ناحية اثاره :
ان اثآرنا تدل علينا *** فانظر بعدنا الى الاثار 

وبما ان الظواهر الطبيعية ، جليلها وحقيرها ، لها وجهان ، فقد اكد الاسلام على معرفتها والغور في اثارها وخصوصيتها ، قائلا : ( قل انظروا ماذا في السماوات والارض )  سورة يونس ١٠١ 

ولكن لا بمعنى الوقوف عند هذا التعرف واتخاذه هدفا فقط ، بل بمعنى اتخاذ تلك المعرفة جسرا لمعرفة بارئها وخالقها، ومن اوجد فيها السُنن والنُظم 

ان المادي يقتصر في عالم المعرفة على معرفة الشيء ويغفل عن معرفة اخرى وهي معرفة مبدأ الشيء من طريق  التفكّر عميقا في اياته وآثاره ، فلو اكتفينا في معرفة الظواهر بالمعرفة الاولى حبسنا انفسنا  في زنزانات المادة ، ولكن اذا نظرنا للكون بنظرة وسيعة واخذنا مع تلك المعرفة معرفة اخرى وهي  المعرفة الايوية لوصلنا في ظل ذلك الى عالم افسح مليء بالقدرة والعلم والكمال والجمال ،  حيث ان الالهي ، مع انه ينظر الى الظواهر الطبيعية مثلما ينظر اليها المادي ويسعى الى التعرف على كل ما يسودها من سنن ونظم ، فانه يتخذها وسيلة لتعرف عال وهو التعرف على الفاعل الذي قام بايجادها واجراء السنن فيها ، وعلى ذلك فكل المظاهر الطبيعية مع ما فيها من جمال وروعة ومع ما فيها من القوانين والنظم فهي ايات وجود بارئها ومكوّنها ومنشئها
 ويكفي في ذلك قوله سبحانه  :
 إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164) سورة البقرة

  ( كتاب الالهايات للسبحاني الجزء١ ) 

 وقد قال الله عز وجل: (أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شئ) يعني بذلك: أولم يتفكروا في ملكوتالسماوات والأرض وفي عجائب صنعها، أولم ينظروا في ذلك نظر مستدل معتبر، فيعرفوا بما يرون ما أقامه الله عز وجل من السماوات والأرض مع عظم أجسامها وثقلها على غير عمد وتسكينه إياها بغير آله ، فيستدلوا بذلك على خالقها ومالكها ومقيمها أنه لا يشبه الأجسام ولا ما يتخذ الكافرون إلها من دون الله عز وجل، إذ كانت الأجسام لا تقدر على إقامة الصغير من الأجسام في الهواء بغير عمد وبغير آلة،فيعرفوا بذلك خالق السماوات والأرض وسائر الأجسام، ويعرفوا أنه لا يشبهها ولا تشبهه في قدرة الله وملكه  وأما ملكوت السماوات والأرض فهو ملك الله لها و اقتداره عليها، وأراد بذلك، أولم ينظروا ويتفكروا في السماوات والأرض في الخلقالله عز وجل إياهما على ما يشاهدونهما عليه، فيعلموا أن الله عز وجل هو مالكهاوالمقتدر عليها لأنها مملوكة مخلوقة، وهي في قدرته وسلطانه وملكه، فجعل نظرهمفي السماوات والأرض وفي خلق الله لها نظرا في ملكوتها وفي ملك الله لها لأن اللهعز وجل لا يخلق إلا ما يملكه ويقدر عليه، وعنى بقوله: (وما خلق الله من شئ)يعني: من أصناف خلقه، فيستدلون به على أن الله خالقها وأنه أولى بالإلهية منالأجسام المحدثة المخلوقة.
( كتاب التوحيد للصدوق ٢٧ )

ان البراهين الدالة على وجود الخالق لهذا الكون ، ومفيض لهذه الحياة ، كثيرة ومتعددة ، ونحن ذاكرون فيما يلي بعضا منها :-

برهان النظم :-

وهو من اوضح براهيين الالهيين في اثبات الصانع ورفض الالحاد والمادية ، واشملها لجميع الطبقات . 

يبتني برهان النظم على مقدمات اربع :- 

الأولى: إن وراء الذهن الإنساني عالما مليئا بالموجودات، محتفا بالظواهر الطبيعية. وإن ما يتصوره الإنسان في ذهنه هو انعكاس للواقع الخارجي، وهذه المقدمة قد أطبق عليها الإلهي والمادي رافضين كل فكرة قامت على نفي الواقعية ولجأت إلى المثالية، بمعنى نفي الحقائق الخارجية.

الثانية: إن عالم الطبيعة خاضع لنظام محدد، وإن كل ما في الكون لا ينفك عن النظم والسنن التي كشفت العلوم الطبيعية عن بعضها، وكلما تطورت هذه العلوم خطى الإنسان خطوات أخرى في معرفة الكون والقوانين السائدة عليه.

الثالثة: أصل العلية، والمراد منه أن كل ما في الكون من سنن وقوانين لا ينفك عن علة توجده وأن تكون الشئ بلا مكون وتحققه بلا علة، أمر محال لا يعترف به العقل، بالفطرة، وبالوجدان والبرهان. وعلى ذلك فكل الكون وما فيه من نظم وعلل نتيجة علة أوجدته وكونته.

الرابعة: إن دلالة الأثر تتجلى بصورتين:


أ - وجود الأثر يدل على وجود المؤثر، كدلالة المعلول على علته، والآية على صاحبها، وقد نقل عن أعرابي أنه قال: " البعرة تدل على البعير، وأثر الأقدام يدل على المسير "، إلى غير ذلك من الكلمات التي تقضي بها الفطرة. وهذه الدلالة مما لا يفترق فيها المادي والإلهي، وإنما المهم هو الصورة الثانية من الدلالة.

ب - إن دلالة الأثر لا تنحصر في الهداية إلى وجود المؤثر، بل لها دلالة أخرى في طول الدلالة الأولى، وهي الكشف عن خصوصيات المؤثر من عقله وعلمه وشعوره او تجرده من تلك الكمالات والصفات  مثلا العمل المتقن الدقيق لا يأتي الا من شخص حكيم  عالم بما يفعل 
إن كتاب " القانون " المؤلف في الطب، كما له الدلالة الأولى وهي وجود المؤثر، له الدلالة الثانية وهي الكشف عن خصوصياته التي منها أنه كان إنسانا خبيرا بأصول الطب وقوانينه، مطلعا على الداء والدواء، عارفا بالأعشاب الطبية، إلى غير ذلك من الخصوصيات.

ملخص برهان النظم هو ببساطة : 

أن العالم الذي نعيش فيه، من الذرة إلى المجرة عالم منسجم تسود عليه أدق الأنظمة والضوابط ، 
فما هي تلك العلة التي اوجدت هذا الابداع ؟ أقول: إنها تتردد بين شيئين لا غير.

الأول: إن هناك موجودا خارجا عن إطار المادة عالما قادرا واجدا للكمال والجمال، قام بإيجاد المادة وتصويرها بأدق السنن، وتنظيمها بقوانين وضوابط دقيقة، فهو بفضل علمه الوسيع وقدرته اللا متناهية، أوجد العالم وأجرى فيه القوانين، وأضفى عليه السنن التي لم يزل العلم من بدء ظهوره إلى الآن جاهدا في كشفها، ومستغرقا في تدوينها، وهذا المؤثر الجميل ذو العلم والقدرة هو الله سبحانه.


الثاني: إن المادة الصماء العمياء القديمة التي لم تزل موجودة، وليست مسبوقة بالعدم، قامت بنفسها بإجراء القوانين الدقيقة، وأضفت على نفسها السنن القويمة في ظل انفعالات غير متناهية حدثت في داخلها وانتهت على مر القرون والأجيال إلى هذا النظام العظيم الذي أدهش العقول وأبهر العيون.


إذا عرضنا هاتين النظريتين على المقدمة الرابعة لبرهان النظم التي اوضحناها سابقا  ،  وهي قادرة على تمييز الصحيح من الزائف منهما، فلا شك أنها ستدعم أولاهما وتبطل ثانيتهما لما عرفت من أن الخصوصيات الكامنة في وجود المعلول والأثر، تعرب عن الخصوصيات السائدة على المؤثر والعلة، فالسنن والنظم نكشف عن المحاسبة والدقة، وهي تلازم العلم والشعور في العلة، فكيف تكون المادة العمياء الصماء الفاقدة لأي شعور هي التي أوجدت هذه السنن والنظم؟.

وعلى ضوء ذلك فالسنن والنظم، التي لم يتوفق العلم إلا لكشف أقل القليل منها، تثبت النظرية الأولى وهي احتضان العلة واكتنافها للشعور والعلم وما يناسبهما، وتبطل النظرية الثانية وهي قيام المادة الصماء العمياء بإضفاء السنن على نفسها بلا محاسبة ودقة بتخيل أن انفعالات كثيرة، حادثة في صميم المادة، انتهت إلى ذاك النظام المبهر تحت عنوان " الصدفة " أو غيرها من الصراعات الداخلية التي تلوكها ألسنة الماركسيين.

برهان النظم بتقرير ثان

الانسجام آية دخالة الشعور في وجود الكون

إن التقرير السابق لبرهان النظم كان يعتمد على ملاحظة كل ظاهرة مادية، مستقلة ومنفصلة عن سائر الظواهر، فالنظام السائد على الخلية منفصلا عن سائر الظواهر، كان محل البحث والنظر.
ومثله سائر الظواهر المادية ذات الأنظمة البديعة كحركة الشمس والقمر وغيرها، غير أنه يمكن تقرير هذا البرهان بشكل آخر يعتمد على الانسجام السائد على العالم، والاتصال البديع بين أجزائه فيستدل بالانسجام والاتصال على أن ذاك النظام المتصل المنسجم إبداع عقل كبير وعلم واسع، ولولا لما لا تحقق ذلك النظام المعجب المتصل المتناسق.
إن الأبحاث العلمية كشفت عن الاتصال الوثيق بين جميع أجزاء العالم وتأثير الكل في الكل، حتى إن صفصفة أوراق الشجر غير منقطعة عن الريح العاصف في أقاصي بقاع الأرض، وحتى إن النجوم البعيدة التي تحسب مسافاتها بالسنين الضوئية، مؤثرة في حياة النبات والحيوان والإنسان، وهذا الانسجام الوثيق، الذي جعل العالم كمعمل كبير يشد بعضه بعضا، أدل دليل على تدخل عقل كبير في إبداعه وإيجاده بحيث جعل الكل منسجما مع الكل.
وبعبارة واضحة، إن الضبط والتوازن في الكون السائدين على الطبيعة أوضح دليل على تدخل عقل كبير في طروئهما، ولأجل أن تتبين ملامح هذا التقريب نأتي بالأمثلة التالية:

١ - إن حياة كل نبات تعتمد على مقدار صغير من غاز ثاني أوكسيد الكاربون، الذي يتجزأ بواسطة أوراق هذا النبات إلى كاربون وأوكسجين، ثم يحتفظ النبات بالكاربون ليصنع منه ومن غيره من المواد، الفواكه والأثمار والأزهار ويلفظ الأوكسجين الذي نستنشقه في عملية الشهيق والزفير الأساسية في حياة الإنسان.
ولو أن الحيوانات لم تقم بوظيفتها في دفع ثاني أوكسيد الكاربون، أو لم يلفظ النبات الأوكسجين، لانقلب التوازن في الطبيعة واستنفذت الحياة الحيوانية، أو النباتية كل الأوكسجين أو كل ثاني أوكسيد الكاربون، وذوي النبات ومات الإنسان.
فمن ذا الذي أقام مثل هذه العلاقة بين النبات والحيوان وأوجد هذا النظام التبادلي بي هذين العالمين المتباينين؟ ألا يدل ذلك على وجود فاعل مدبر وراء ظواهر الطبيعية هو الذي أقام مثل هذا التوازن؟

٢ - منذ سنوات عديدة زرع نوع من الصبار في استراليا كسياج وقائي ولكن هذا الزرع مضى في سبيله حتى غطى مساحة واسعة وزاحم أهالي المدن والقرى، وأتلف مزارعهم ولم يجد الأهالي وسيلة لصده عن الانتشار وصارت استراليا في خطر من اكتساحها بجيش من الزرع صامت، يتقدم في سبيله دون عائق!! وطاف علماء الحشرات في أرجاء المعمورة إلى أن وجدوا أخيرا حشرة لا تعيش إلا على ذلك الصبار، ولا تتغذى بغيره وهي سريعة الانتشار وليس لها عدو يعوقها في استراليا وما لبثت هذه الحشرة أن تغلبت على الصبار، ثم تراجعت ولم يبق منها سوى بقية للوقاية تكفي لصد الصبار عن الانتشار إلى الأبد (١).
فكيف عرفت هذه الحشرة أن عليها أن تقضي على الزائد من الصبار وتكف عن الباقي لتحفظ أشجار الصبار على توازنها فلا تطغى على الأشياء الأخرى؟ ألا يكشف هذا التوازن والضبط عن خالق مدبر حكيم؟

٣ - الماء هو المادة الوحيدة المعروفة التي تقل كثافتها عندما تتجمد، ولهذه الخاصية أهميتها الكبيرة بالنسبة للحياة إذ بسببها يطفو الجليد على سطح الماء عندما يشتد البرد، بدلا من أن يغوص إلى قاع المحيطات والبحيرات والأنهار، ويكون تدريجيا كتلة صلبة لا سبيل إلى إخراجها وإذابتها. والجليد الذي يطفو على سطح البحر يكون طبقة عازلة تحفظ الماء تحتها عند درجة حرارة فوق درجة التجمد، وبذلك تبقى الأسماك وغيرها من الحيوانات المائية حية، فإذا جاء الربيع ذاب الجليد بسرعة ولا عائق.
فهل يمكن إعزاء كل هذا الضبط والدقة في المقاييس والنسب إلى فعل المادة الصماء العمياء البكماء، والحال إنه يكشف عن تدبير وحساب ويحكي عن نظام متقن وعظيم ويدل على أن وراء كل ذلك خالق حكيم هو الذي أوجد هذا التوازن المدهش والضبط الدقيق.
أجل إن ذلك التوازن وهذا الضبط يشهدان على دخالة الشعور والحكمة والعقل في إدارة هذا العالم وتدبيره وتسييره وهي أمور لا تتوفر في الصدفة بل تتوفر في قوة عليا شاعرة هادفة تدرك مصلحة الكون واحتياجات الحياة إدراكا كاملا وشاملا، فتخضع الكون لمثل هذه الضوابط والعلاقات.
برهان النظم بتقرير ثالث


الهادفية آية تدخل الشعور في تطور النظم:


إن النظرة الدقيقة في عالم الكون تهدينا إلى نظام خاص نسميه بنظام الخدمة، بحيث نرى أن أنظمة خاصة في الكون جعلت في خدمة أنظمة كونية أخرى بحيث لا بقاء للثانية بدون الأولى، ولذلك نلاحظ صلة قويمة بين المظاهر المختلفة. فعندئذ يطرح السؤال التالي: إن هذه الكيفية الملموسة في عالم الكون كيف برزت في عالم الوجود؟

أمن ناحية الصدفة، وهي أقل شأنا من أن تبدع أنظمة يكون قيم منها في خدمة القسم الآخر، وهي عاجزة عن إيجاد فرد بهذا الشكل الدقيق فكيف بهذه المجموعة الكبيرة؟

أم من ناحية " خاصية المادة " التي ربما يلتجئ إليها بعض الماديين.

وهي أيضا أعجز عن القيام بالتفسير. فإن " فرضية الخاصية " تهدف إلى أن لكل خلية، أو لكل ذرة من الذرات أثرا خاصا ينتهي إلى موجود خاص وهو ذو نظام. وأما كون أنظمة كبيرة في خدمة أنظمة مثلها فلا يمكن أن يفسر بخاصية المادة، فإن هذا أثر المجموع لا أثر كل جزء من أجزاء المادة.

ولنأتي بمثال: لا شك إن لتكون المرأة والأجهزة التي خلقت بها عللا مادية تظهرها على صفحة الوجود، فلها مع ثدييها والخصوصيات الحافة بها واللبن الذي يتكون في صدرها عللا مادية تنتهي إلى تلك الظواهر.
كما إن لتكون الطفل في رحمها وولادته على نحو يتناسب والخصوصيات القائمة بها وتكونه بفم خاص ومجاري تغذية خاصة تعتمد على اللبن فقط، إن لكل ذلك عللا مادية لا تنكر.
إلا أن هناك أمرا ثالثا وهو كون المرأة بأجهزتها المادية في خدمة الظاهرة الثانية بعامة أجهزتها بحيث لولا الأولى لما كان للثانية مجال العيش وإدامة الحياة. فعندئذ نسأل عن هذه الكيفية التي سميناها بنظام الخدمة، هي وليدة أية علة؟ هل الصدفة جعلت الأولى وسيلة للثانية، وهي عاجزة عن إيجادها بهذه الكمية الهائلة، ولو صح التفسير بها لصح في مولود أو مولودين لا في هذه المواليد غير المتناهية وغير المعدودة، إلا بالأرقام النجومية.
أو من ناحية خاصية المادة وهو إذن عقيم، لأن فرضية الخاصية، على فرض صحتها، تهدف إلى تفسير النظام الجزئي بخاصية المادة، وأما تفسير الكمية من النظم التي يقع بعضها في خدمة البعض بخاصية المادة فهو مما لا تفي به تلك الفرضية، ولا يقول به أصحابها، والانسجام والتخادم مما لا يمكن أن يكون أثرا لخلية واحدة أو نحوها.
إن العقل في هذا الموقف يقضي بوجه بات بأن هذا النظام وهذه الخصوصية وليدة مبدع عالم قادر قد نسق هذه النظم بأطروحة علمية، وخريطة خاصة جعلت الظاهرة الأولى ذريعة للثانية، وأوجد الأولى قبل أن يبدع الثانية بزمن، وهذا ما نسميه بالهادفية، وأن الخلقة غير منفكة عن الهدف، كما أن القول به لا ينفك عن إشراف مبدع عالم قادر على الكون وهو الذي يتبناه الإلهيون باسم إله العالم.

وبعبارة واضحة نرى أن يد القدرة والإبداع قد هيأت قبل ولادة الطفل بأعوام، أجهزة كثيرة يتوقف عليها عيش الطفل وحياته في مسيرة الحياة، وتداركت ما يتوقف عليه حياة الطفل في أوليات عمره بوجه بديع، وهذا أوضح دليل على أن الكون لا يخلو من هدف، وأن مبدعة كان هادفا. وهو لا ينفك عن تدخل الشعور، ورفض الصدفة عن قاموس تفسير الكون وتحليله.

وكم ترى من نظائر بارزة وأمثلة رائعة لهذا النوع من الهادفية في صفحة الكون طوينا عنها الكلام.

إشكالات والاِجابة عنها

إنّ هناك إشكالات طرحت حول برهان النظم يجب علينا الاِجابة عنها، والمعروف منها ما طرحه ديفويد هيوم الفيلسوف الانكليزي (1711ـ 1776م) في كتابه «المحاورات» (1) وهي ستّة إشكالات كما يلي:

الاِشكال الاَوّل

إنّ برهان النّظم لا يتمتّع بشرائط البرهان التجريبي، لاَنّه لم يجرّب في شأن عالم آخر غير هذا العالم، صحيح انّا جرّبنا المصنوعات البشريّة فرأينا انّها لا توجد إلاّ بصانع عاقل كما في البيت والسفينة والسّاعة وغير ذلك، ولكنّنا لم نجرّب ذلك في الكون، فإنّ الكون لم يتكرّر وجوده حتّى يقف الاِنسان على كيفية خلقه وإيجاده، ولهذا لا يمكن أن يثبت له علّة خالقة على غرار المصنوعات البشريّة.

والجواب عنه: انّ برهان النظم ليس برهاناً تجريبيّاً بأن يكون الملاك فيه هو تعميم الحكم على أساس المماثلة الكاملة بين الاَشياء المجرّبة وغير المجرّبة، وليس أيضاً من مقولة التمثيل الذي يكون الملاك فيه التشابه بين فردين، بل هو برهان عقلي يحكم العقل فيه بأمر بعد ملاحظة نفس الشيء وماهيته، وبعد سلسلة من المحاسبات العقلية من دون تمثيل أو إسراء حكم، كما يتمّ ذلك في التمثيل والتجربة.
وكون إحدى مقدّمتيه حسّيّة لا يضرّ بكون البرهان عقلياً، فإنّ دور الحسّ فيه ينحصر في إثبات الموضوع، أي إثبات النظم في عالم الكون، وأمّا الحكم 

  والاستنتاج يرجع إلى العقل ويبتني على محاسبات عقلية، وهو نظير ما إذا ثبت بالحس انّهاهنا مربّعاً، فإنّ العقل يحكم من فوره بأنّ أضلاعه الاَربعة متساوية في الطول.
فالعقل يرى ملازمة بيّنة بين النظم بمقدّماته الثلاث، أعني: الترابط والتناسق والهدفيّة، وبين دخالة الشعور والعقل، فعندما يلاحظ ما في جهاز العين مثلاً من النظام بمعنى تحقّق أجزاء مختلفة كمّاً وكيفاً، وتناسقها بشكل يمكنها من التعاون والتفاعل فيما بينها و يتحقّق الهدف الخاص منه، يحكم بأنّها من فعل خالق عظيم، لاحتياجه إلى دخالة شعور وعقل وهدفيّة وقصد.

الاِشكال الثاني

إنّ هناك في عالم الطبيعة ظواهر وحوادث غير متوازنة خارجة عن النظام وهي لاتتّفق مع النظام المدّعى ولا مع الحكمة الّتي يوصف بها خالق الكون، كالزلازل والطوفانات.

والجواب عنه: انّ هذا الاِشكال لا صلة له بمسألة النظم فانّ ما تعدّ من الحوادث الكونيّة شروراً كالزلازل والطوفانات لها نظام خاص في صفحة الكون، ناشئة عن علل وأسباب معيّنة تتحكّم عليها محاسبات ومعادلات خاصّة وقد وفّق الاِنسان إلى اكتشاف بعضها وإن بقى بعض آخر منها مجهولاً له بعد. (1)


(1) فإن قلت: كون الشرور الطبيعية تابعاً لقوانين كونية وناشئاً عن أسباب طبيعية خاصّة راجع إلى النظم العلّي، والنظم المقصود في برهان النظم هو النظم الغائي، والشرور توجب اختلال النظم بهذا المعنى.

قلت: حقيقة النظم الغائي هي انّ هناك تلائم وانسجام سائد في الاَشياء تتّجه إلى غاية مخصوصة وكمال مناسب لها، وإن كان قد يتخلّف بعروض مانع عن الوصول إلى الغاية كما في فرض الشرور، ومثل هذا الفعل يسمّى عندهم باطلاً، لا فاقداً للغاية. 


    وأمّا انّـها ملائمة لمصالح الاِنسان أو غير ملائمة له، فلا صلة له ببرهان النظم الّذي بصدد إثبات انّ هناك مبدئاً وفاعلاً لعالم الطبيعة ذا علم و قدرة وإرادة، وأمّا سائر صفاته كالوجوب الذاتي، والعدل والحكمة ونحوها فلاِثباتها طرق أُخر، وسيجيء البحث عنها في الفصول القادمة فانتظره.

الاِشكال الثالث

ماذا يمنع من أن نعتقد بأنّ النظام السائد في عالم الطبيعة حاصل من قبل عامل كامن في نفس الطبيعة، أي انّ النظام يكون ذاتيّاً للمادّة؟ إذ لكلّ مادّة خاصيّة معيّنة لا تنفكّ عنها، وهذه الخواص هي التي جعلت الكون على ما هو عليه الآن من النظام.
ويردّه انّ غاية ما تعطيه خاصيّة المادّة هي أن تبلغ بنفسها فقط إلى مرحلة معيّنة من التكامل الخاصّ والنظام المعيّن ـ على فرض صحّة هذا القول ـ لا أن تتحسّب للمستقبل وتتهيّأ للحاجات الطارئة، ولا أن تقيم حالة عجيبة ورائعة من التناسق والاِنسجام بينها وبين الاَشياء المختلفة والعناصر المتنافرة في الخواصّ والاَنظمة.
ولنأت بمثال لما ذكرناه، وهو مثال واحد من آلاف الاَمثلة في هذا الكون، هب أنّ خاصيّة الخليّة البشريّة عندما تستقرّ في رحم المرأة، هي أن تتحرّك نحو الهيئة الجنينية، ثمّ تصير إنساناً ذا أجهزة منظّمة، ولكن هناك في الكون في مجال الاِنسان تحسُّباً للمستقبل وتهيُّوَاً لحاجاته القادمة لا يمكن أن يستند إلى خاصيّة المادّة، وهو انّه قبل أن تتواجد الخليّة البشريّة في رحم الاَُمّ وجدت المرأة ذات تركيبة وأجهزة خاصّة تناسب حياة الطفل ثمّ تحدث للاَُمّ تطوّرات في أجهزتها البدنية والروحيّة مناسبة لحياة الطفل وتطوّراته.
     هل يمكن أن نعتبر كلّ هذا التحسّب من خواصّ الخليّة البشريّة، وما علاقة هذا بذاك؟
وللمزيد من التوضيح نأتي بمثال آخر ونقول: إنّ جملة«أفلاطون كان فيلسوفاً» تتكوّن من (17) حرفاً، فلو انّ أحداً قال: إنّ لكلّ حرف من هذه الحروف صوتاً خاصّاً يختصّ به، وإنّ هذا الصوت هو خاصّية ذلك الحرف لما قال جزافاً.
ولكن لو قال بأنّ هناك وراء صوت كلّ حرف و خاصّيته أمراً آخر وهو التناسق والتناسب والانسجام الّذي يوَدّي إلى بيان ما يوجد في ذهن المتكلم من المعاني، هو كون أفلاطون فيلسوفاً، وانّ هذا التناسق هو خاصيّة كلّ حرف من هذه الحروف، فقد ارتكب خطأ كبيراً وادّعى أمراً سخيفاً، فإنّ خاصية كلّ حرف هي صوته الخاص به ولا يستدعي الحرف هذا التناسق، مع أنّه يمكن أن تتشكّل وينشأ من هذه الحروف آلاف الاَشكال والاَنظمة الاَُخرى غير نظام «أفلاطون كان فيلسوفاً».
فإذا لم يصحّ هذا في جملة صغيرة مركّبة من عدّة أحرف ذات أصوات مختلفة وخواصّ متنوّعة، فكيف بالكون والنظام الكوني العامّ الموَلّف من ملايين الموادّ والخواصّوالاَنظمة الجزئيّة المتنوعة؟!

        ثلاثة إشكالات أُخرى لهيوم

1. من أين نثبت انّ النظام الموجود فعلاً هو النظام الاَكمل، لاَنّا لم نلاحظ مشابهه حتى نقيس به؟
2. من يدري لعلّ خالق الكون جرّب صنع الكون مراراً حتى اهتدى إلى النظام الفعلي؟
 3. لو فرضنا انّ برهان النظم أثبت وجود الخالق العالم القادر، بيد انّه لا يدلّ مطلقاً على الصفات الكمالية كالعدالة والرحمة الّتي يوصف بها.
والجواب عنها: انّ هذه الاِشكالات ناشئة من عدم الوقوف على رسالة برهان النظم ومدى ما يسعى إلى إثباته، انّ رسالة برهان النظم تتلخّص في إثبات انّ النظام السائد في الكون ليس ناشئاً من الصدفة ولا من خاصّية ذاتية للمادّة العمياء، بل وجد بعقل وشعور ومحاسبة وتخطيط، فله خالق عالم قادر.

وامّا انّ هذا الخالق الصانع هو اللّه الواجب الوجود الاَزلي الاَبدي أم لا، وانّ علمه بالنظام الاَحسن هل هو ذاتي فعلي أو إنفعالي تدريجي، وانّ النظام الموجود هل هو أحسن نظام أو لا ؟ فهي ممّا لا يتكفّل بإثباته هذا البرهان ولا انّه في رسالته ولا مقتضاه، بل لابدّ في هذا المورد من الاستناد إلى براهين أُخرى مثل برهان الاِمكان والوجوب والاستناد بقواعد عقلية بديهية أو مبرهنة مذكورة في كتب الفلسفة والكلام، مثل انّ علمه تعالى ذاتي فعلي وليس بانفعالي تدريجي، وانّ النظام الكياني ناشىَ عن النظام الربّاني ومطابق له، وذلك النظام الربّاني العلمي أكمل نظام ممكن، إلى غير ذلك من الاَُصول الفلسفية.

قانون الاحتمالات  الرياضي يهدم ما يسمى الصدفة في ايجاد النظم

١- يقول كريسي مورسن في كتابه العلم يدعو للايمان " خذ عشرة قطع من النقد ،  وضع اشارة على هذه القطع من واحد الى عشرة ، وضعها في جعبة ، ثم اخلطها ، ثم حاول ان تستخرجها بالترتيب من واحد الى عشرة ، وكلما استخرجت واحدة منها ارجعها الى الجعبة  قبل ان تسحب الثانية 
 عندئذ يكون احتمال خروج قطعة النقد رقم واحد هو ١/١٠ 
 واحتمال ان تستخرج القطعة رقم واحد ثم رقم اثنين على الترتيب ١/١٠٠
واحتمال ان تستخرج القطعة رقم واحد ثم رقم اثنين ثم رقم ثلاثة  على الترتيب ١/١٠٠٠
وعلى هذا المنوال يكون احتمال خروج القطع العشرة الواحدة تلو الاخرى على الترتيب مساويا لواحد على عشرة مليارات 
نستهدف من ذكر هذا المثال البسيط ايضاح حقيقة ان الارقام  في مقابل الاحتمالات تسير  في قوس تصاعدي ، وبغية ان توجد الحياة على الارض يستوجب ذلك ظروفا واوضاعا ملائمة ، يستحيل ان نتصور ان هذه الظروف والاوضاع - من زاوية الارقام الرياضية - حدثت صدفة واتفاقا ، ومن هنا نضطر الى الاعتقاد بوجود قوة خاصة مدركة تشرف على هذه الظواهر وتوجهها ، حينما نأخذ بنظر الاعتبار حجم الارض ووضعها في الفضاء ، والتركيبات المحيرة لهذا الوضع ، نجد ان حصول بعض هذه التركيبات اتفاقا وصدفة واحد الى المليون اما حدوثها مجتمعة فهو واحد الى المليارات ، ومن هنا لا يمكن الاعتقاد بنشوء الكون والارض بشكل يمكّن من توافر الحياة عليها  عن طريق الصدفة على الاطلاق " 
العلم يدعو للايمان ص٩٣ 

٢- تكوّن البروتين : اثبت قانون  الاحتمالات ان تكوّن البروتين من الصدفة امر مستحيل 
                   http://youtu.be/e9LA3w-mRTU

اعلان 1
اعلان 2

0 التعليقات :

إرسال تعليق

عربي باي